الحكماء السبعة في الفلسفة
خليل المقداد


لا نكون مغالين إذا ذكرنا أن انطلاقة المفاهيم الثقافية ومنها المعتقدات الدينية ( الميثولوجيا ) والفلسفة وعلم الفلك والتبصر في الكون وعلم الرياضيات كانت من سورية، وهذا يشمل الانطلاقة النوعية التي ظهرت في بلاد الشام منذ الألف الخامس عشر والتي انتقل فيها الإنسان من حياة عدم الاستقرار إلى التحضر بكامل المعايير الحضارية والتي عرفت بثورة الرموز والثورة الزراعية بكل مقوماتها، ولذلك أطلق عليها الحضارة السورية أو حضارة بلاد الشام في العصر النطوفي والتي شملت كامل مناطق الساحل السوري وحتى حوض النيل في العصر الغسولي .
وقد انطلقت الفلسفة مع تطور علم الفلك ومعرفة الإنسان بشؤون حياته والتبصر في خلق الكون وخلق نفسه وتوافقها مع ما يحيط بها من شؤون الحياة . وقد توافق ذلك مع ولادة الحضارة في سورية ثم الانتشار في العالم مع انتشار وتوسع الحضارة العربية بفضل الكنعانيين والفينيقيين، وقد أخذ هذا الأمر يتعمق ويتألق منذ مطلع الألفية الأولى قبل الميلاد ليشمل كافة المدن والممالك والإمارات في العالم .
ونضرب هنا بعض الأمثلة على ذلك ومنها العلاقات التي كانت تتم بين الفينيقيين والإغريق . ففي بداية الأمر وقبل الألف الأول للميلاد حلت قبائل الإغريق في مناطق أسيا الصغرى قادمةً من أواسط أسيا ومنهم الدوريون – الكورنثيون – الإيونييون – التوسكانييون ... إلخ، وقد استقر قسم من هؤلاء في منطقة أسيا الصغرى، والقسم الآخر اتجه إلى بلاد البلقان وتراقيا ومكدونيا وبلاد اليونان، أو بمعنى أشمل القسم الجنوبي الشرقي من قارة أوروبا .
إلا أن قسماً من هؤلاء وخاصةً الذين حلوا في منطقة اليونان وجدوا أن الأراضي ضاقت بهم بسبب الموقع الجغرافي المكون من وديان ومنحدرات ساحقة وقلة الأراضي الزراعية، لذلك حاولوا العودة إلى القسم الغربي من تركيا، إلا أن أبناء عمومتهم بالأمس لم يستقبلوهم بالترحاب وبالأحضان، ولهذا جرت بينهم الحروب الطاحنة في التنافس على امتلاك الأرض والاستقرار، وكان من أشهر تلك الحروب حرب طروادة .
وفي هذه الحالة وبموجب الحاجة فضّل قسم كبير من هؤلاء وخاصةً الذين سكن قسم منهم في الجزر اليونانية أو جزر بحر إيجة اللجوء إلى الفينيقيين الذين كانوا أسياد البر والبحر للعمل لديهم في الأساطيل البحرية التي كانوا يملكونها، وبالمقابل كان الفينيقيون يحتاجون إلى اليد العاملة لهذا الأمر سيما وأن هؤلاء أصبحت لديهم الخبرة في التعايش مع البحر كما أن السفن الفينيقية كانت تعتمد على المجاديف بحيث تحتاج كل سفينة لا يقل عن ستين مجدافاً .
ونتيجةً لهذه العشرة الطويلة بين الإغريق والفينيقيين تمرس هؤلاء في فهم المصلحة والاختلاط مع العرب من مصريين وليبيين وسوريين والذين هم بالمحصلة قبائل عربية ومن ثَمَّ تشرب الإغريق الحضارة العربية وتتلمذوا على يد العرب فكان الفلاسفة والأطباء والمهندسون وغيرهم ثم أخذوا في نقل هذه الحضارة إلى بلادهم وبناء دولة متينة كانت مرتكزاً لامبراطورية الإسكندر الكبير ومن ثم انطلقوا لبناء مستوطنات في شمال أفريقيا كانت بدايتها في منطقة قورينا في الجبل الأخضر في ليبيا الحالية.
ومن هنا نجد أن الإغريق تفهموا الحضارة بشكلٍ مبكر بسبب احتكاكهم بالعرب وطبقوها بذكاء، ولهذا نلمس الفوارق الحضارية المتباعدة بشكلٍ واضع بينهم وبين الشعوب القادمة من شمال أوروبا وغربها ووسطها، والتي حلت في شبه الجزيرة الإيطالية ومن ثم شكلت نسبة كبيرة من الشعب الرومان، ومع الزمن أخذ هؤلاء في التقليد ولكن بعد دفع الثمن الباهظ لذلك .
وهذا الاختلاط والتعايش ولّد نهضة حضارية جديدة ارتكزت على المقومات الحضارية السابقة ولكن بثوب جديد ومصاهرة جديدة فكانت الحضارة التي عُرفت باسم الحضارة الهللينستية واستمرت حوالي ثلاثة قرون من الزمن كان للعرب دورٌ رئيس في المجالات جميعها. وانعكس هذا الأمر على مجريات العلوم والفلسفة والفنون وغيرها من المقومات الحضارية، وفي هذه المناسبة لابد من توضيح مسالة التداخل بين الشعب العربي في سورية والشعوب الإغريقية التي قدمت إلى المنطقة مع قوات الإسكندر المقدوني الكبير .
والشيء المؤكد الذي نود الإشارة إليه في هذه المناسبة أن كل محتل أو غريب جاء إلى سورية كانت طريقة تعامله مع الشعب السّوري وفي التعامل معه بالأمور الإستراتيجية مختلفة عما كانت عليه الحال مع شعوب ومناطق أخرى من العالم، ففي بداية الأمر يحل مستعمراً ومن ثم يسعى لتحسين العلاقات والاندماج مع الشعب وتوليد علاقات اندماجية، ويعالج الأمور بالحكمة لأنه يتعامل مع شعبٍ يمتلك حضارة عريقة متجذرة في التاريخ، ولهذا كانت معاملته مع الشعب العربي السوري معاملة خاصة تتناسب مع المجريات، وهذه المجريات لم يعشها مع شعوبٍ أخرى .
لذلك فالشيء الجوهري في الأمر أن المحتل الجديد كان ومنذ الساعة التي يضع فيها أقدامه فوق هذه الأرض يباشر في التأثر بهذا الشعب وينهل من حضارته، ثم يترجمها عملياً ثم يصبح رسولاً لنشر هذه الحضارة، ولدينا من الشواهد ما فيه الكفاية ؛ وعلى سبيل المثال شعوب البحر الأبيض المتوسط والحثيين والفرس والسلوقيين والبطالمة والرومان والبيزنطيين والسلاجقة والتتار والمغول والفرنجة والعثمانيين... إلخ .
على العموم لا نود الخوض في هذه المجالات الواسعة حتى لا نبتعد عن البحث الذي نحن بصدده، وسوف نتطرق إلى بعض الجوانب المتعلقة بالموضوع الذي نعالجه علنا ننصف الحقيقة التاريخية ولا نكون متعصبين إقليميا أو قومياً أو دينياً فننحرف عن المسار الصحيح وبنظرة الباحث الواقعي، ولا نظلم بلدنا وحضارتنا ونقدمها على طبقٍ من ذهب إلى الآخرين كما يفعل البعض في أثناء تناولهم مثل هذه المواضيع الحضارية الحساسة .
وكما ذكرنا سابقاً لم تكن شعوب القسم الجنوبي من القارة الأوروبية بمعزل عن الشعب العربي في سورية، وخاصةً في العهود الكنعانية والآرامية والفينيقية، بل على العكس كان قسم كبير من هذه الشعوب من أصول عربية، كما لم يكن سكان أوروبا الشرقية وخاصةً منطقة البلقان ومقدونيا واليونان وغيرها بمعزل عن هذه القضايا وهذا التمازج، لأن هؤلاء تتلمذوا على أيدي أبناء سورية منذ انطلاقة حضارتهم .
وقد أبدت الشعوب الإغريقية ومنذ القرن السابع رغباتها ومبادراتها في التمازج مع الفينيقيين في كافة المجالات، وترجمت كثيراً من القضايا ترجمة عملية، وخير شاهدٍ على ذلك التمازج الإيديولوجي والميثولوجي والفني والمعماري والفلسفي، أو بمعنى أصح التوافق في جميع مقومات الحضارة وإرهاصاتها .
وبالطبع لم تكن لدى الشعب الفينيقي في تلك الآونة الهيمنة السياسية أو عقلية الاحتلال بقدر ما كان لديهم حب الانفتاح ونقل الحضارة إلى شعوب العالم، وهذا ما شاهدناه يتكرر في العهد الأموي الذي عمل على نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى العالم . وبالطبع فهذه المقتضيات لا تمنع من وجود الرغبة في الهيمنة الاقتصادية والانطلاق إلى امتلاك الثروة والحصول على الفوائد المادية بطرق مشروعة وانفتاحٍ حضاري .
ومن هنا نجد أن هذه الفترة الزمنية التي تجاوزت أربعة قرون كانت كافية لوجود تقارب وتفاهم ومشاركة في العيش في موقع جغرافي واحد وفي بلاد ممتدة احتضنت البحر الأبيض المتوسط ليكون منطلقاً عالمياً لنشر الحضارة والتوفيق بين الشعوب المختلفة. ومن خلال هذه المعطيات وهذه المقومات انطلقت الحضارة الهللينستية بكل مقوماتها وبكل ما تحويه الكلمة من معنى . وكبرهان على ذلك نستعرض هنا تفاصيل لوحة الفسيفساء التي تظهر الحكماء السبعة وهم :
1 ـ أريستيب Aristippe فيلسوف عربي ولد في مدينة سيرين ( برقة – شحات ) في الجبل الأخضر في ليبيا وعاش مرحلة القرن الخامس ق . م، وهي مرحلة تأسيس المدن اليونانية في المنطقة . ويعتبر أريستيب تلميذ سقراط ومؤسس مدرسة سيرينائيك نسبةً إلى منطقة برقة .
2 ـ تالس Thalés عالم رياضيات وفيلسوف فينيقي يتبع المدرسة الأيونية ولد في مدينة ميلية Milet أو ميلوتوس Miletos، التي كانت ميناء فينيقياً على بحر إيجة في منطقة آسيا الصغرى الغربية في بداية الألف الأول قبل الميلاد، وفي نهاية القرن السابع وبداية القرن السادس ق.م انتقل إلى مصر وعاش فيها، ثم عاد إلى اليونان وحمل معه المعارف التي تعلمها في مصر ومنها علم الهندسة، ولذلك يعتبر مؤسس علم الهندسة في اليونان، كما عزي إليه المقياس الأول الدقيق للزمن مع آلة المزولة الشمسية وبعض المعارف حول علاقات وعلوم الزوايا والمثلثات التي تنتمي إليه .
3 ـ شيلون Chilon عند الإغريق هو رجل الدولة في إسبارطة وأحد الحكماء السبعة عند الإغريق في القرن السادس ق . م .
4 ـ أنتيستين Antisthéne فيلسوف يوناني ولد في مدينة أثينا وعاش بين أعوام 444 – 365 ق . م وهو مؤسس مدرسة المذهب الكلبي – الوقاحة والكلام البذيء، وهي المعبر إلى مدرسة القداسة وموعظة الدفاع عن الحرية والاستقلال، بمعنى الاستقلال عن كل شيء.
5 ـ كليوبول Cléobule في الميثولوجيا الإغريقية هو شخصية نصف خرافية وواحد من الحكماء السبعة الإغريق .
6 ـ بيرياندر Periandre عند الإغريق هو شخصية مستبدة وطاغية ومغتصب السلطة في منطقة كورنث من عام 627 إلى 585 ق . م وقد وضعه التقليد اليوناني بين أعضاء الحكمة السبعة .
7 – سقراط Socrate فيلسوف ولد في عام 470 – 399 ق . م، وكان فيلسوفاً وثنياً يتمتع بالاحترام والتقدير وكشخصية وثنية موقرة وواحداً من أهم حكماء عصره .
وأحياناً يضاف إليهم كل من :
ـ بياس Bias وهو واحد من الحكماء الذين ينتمون إلى مدرسة أفلاطون .
ـ سولون Solon وهو رجل الدولة الأثيني وأحد الحكماء السبعة عند اليونان وعاش بين أعوام 640 – 558 ق . م . وقد ارتبط اسمه مع التنظيم الاجتماعي والسياسي الذي كان نقطة انطلاق دولة اثينا . وقد أسس سولون القواعد والمرتكزات التي سوف تصبح لاحقاً وفي عهد قليستين في نهاية القرن السادس ق . م الديمقراطية الأثينية .
ومن خلال استعراض سير حيوات هؤلاء الحكماء نجد أن الحقيقة العلمية تؤكد أن الفلسفة والحكمة والعلوم التقنية انتقلت إلى اليونان منذ النصف الأول من الألف الأول ق . م إما عن طريق الفينيقيين السوريين، أو عن طريق علماء وحكماء الإغريق الذين عاشوا في سورية أو مصر أو ليبيا وشمال أفريقيا وخاصة مدينة قرطاجه العاصمة الفينيقية على شواطئ تونس.
والسبب المباشر في استعراض هذا الموضوع ما نلمسه من أفكار مازالت عالقة في أذهان كثير من الناس عن الفلسفة اليونانية وجذورها اليونانية وتأثر العرب بها؛ خلافاً للحقيقة التاريخية. وقد لمست هذه الحقيقة من خلال التساؤلات التي تطرح حول هذا الموضوع في أثناء العديد من المحاضرات أو من خلال تدريسي تاريخ وحضارة الإغريق وبلاد اليونان في أكثر من جامعة ولعدة سنوات .
وقد تم الكشف عن لوحة الفسيفساء فوق أرضية أحد المباني الأثرية الهامة في مدينة أفاميا (قلعة المضيق) على نهر العاصي والتي تقع في سهل الغاب وحوض العاصي السوري. ومن المعروف أن هذه المدن كانت واحدة من خمس مدن أسسها الملك سلوقس نيكاتور الأول أحد كبار ضباط الإسكندر المقدوني ومؤسس المملكة السلوقية بعد وفاة الإسكندر .
وقد بنيت المدينة على حساب مدينة فرنكة التي حلت بها جيوش الإسكندر في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، وفي هذا الموقع بنيت في البداية مدينة عرفت باسم بيلا، وعلى حسابها شيدت مدينة أفاميا على شرف زوجته السورية أفاميا، ولهذا سمى العاهل السلوقي هذه المدينة باسمها، وقد بلغ متداد الشارع الرئيس فيها 2 كم وعرض 40م محاط بأروقة وأعمدة حلزونية فائقة الجمال ومن أجمل مدن الدنيا الأثرية قاطبةً حتى الآن ( ).
وجاء عرض اللوحة ليبرهن انتماء هؤلاء الحكماء إلى هذا الشعب وهذا الإقليم الجغرافي وإلى مدينة ولادة الحضارة الهللينستية، بالإضافة إلى الانتماء والولاء إلى حضارة حوض البحر الأبيض المتوسط التي تأسست من قبل الشعب العربي ثم انتشرت في كافة أصقاعه على أيدي الكنعانيين والفينيقيين .
وتبرهن دراسة هذه اللوحة على أن الفلاسفة والحكماء والعلماء الآخرين من الإغريق قد تتلمذوا على أيدي هؤلاء العرب، ولهذا نجدهم بالمقارنة مع الرومان أكثر تحضراً ورقياً وإبداعاً في بقية المعارف، بينما الرومان الذين جاؤوا من مناطق مختلفة غير عربية كانوا أكثر بربرية وهمجية، والدليل على ذلك تدميرهم وحرقهم لمدنهم بسبب الصراع على السلطة وخاصةً مدينة روما في عهد نيرون ومن ثم تدمير وحرق مدينة قرطاج في عهد حنا بعل (هانيبال) .
وقد وجدت خير دراسة يمكن إحضارها في هذا الخصوص تلك التي قمنا بها في كتابنا : الفسيفساء السورية والمعتقدات الدينية القديمة (الميثولوجيا) دراسة مقارنة( )، حيث تم تلخيص الموضوع وذكر أهم ما يمكن عرضه في هذه الدراسة على الشكل التالي :
وكما يظهر من الشكل المعروض فقد توسّط اللوحة التشخيصية نسيج فسيفسائي فسيح وجميل جداً ينتمي إلى البواعث الهندسية والنباتية ويبين في آنٍ واحدٍ تطور وازدهار هذا النمط في تلك الفترة وعلى مستوى مناطق البحر الأبيض المتوسط قاطبةً لدرجة أن هذا الأسلوب أصبح يكسو جميع أرضيات الأبنية مهما كانت كبيرة أو صغيرة ومجملاً في وسطه بلوحات تشخيصية رمزية أو غير رمزية مختلفة المشاهد والمواضيع ومنها موضوع سقراط والحكماء الستة .
ونجد هنا أن منهج النسج الفسيفسائي للإطار وعلى الرغم من تزامن هذه اللوحة مع بعض اللوحاتِ المجاورة وتواجدهما في الموقع عينه، إلا أن المنهج والتفاصيل في إطار هذه اللوحة اختلفت كلياُ عن تفاصيل الإطار المحيطي لباقي اللوحات حيث جاء أكثر جمالية وحيوية ومرتكزاً على الباعث النباتي من أوراق الأزهار والمسننات، أما الأشكال الهندسية فنجدها هنا أقل تنوعاً من السابقة، إلا أن الأطر تضاعفت بحيث تشكل الإطار من ثلاثة أطر منها الإطار المركزي المزين بأوراق زهرية تَتَابعُ بشكل ثلاثي لتنتهي في كل زاوية أو ركن من الأركان وفي متوسط حقل من كل ضلع بدوائر تزيينية بسيطة في تزيينها الداخلي .
بينما يحيط بهذا الإطار من الداخل والخارج إطار مسنن كشفرة المنشار، ثم إطار أخر داخلي وخارجي على شكل شرائط خالية من أية مسننات أو تعريقات وإنما ذو أرضية بيضاء، إلا أن سماكة الشريط الخارجي جاءت مضاعفة عن سماكة الشريط الداخلي بثلاثة أضعاف . كما نجد أن هذا النسج يتوسع نحو العمق بتشعبات وتنوعات هندسية ونباتية مختلفة وكذلك أطر تتخللها تزيينات على شكل جدائل مزدوجة . والمشهد التشخيصي للوحة التي نستعرضها يتمحور ضمن ثلاثة محاور أساسية وهي :
المحور الأول : الذي يُظهر أن اللوحة ذات باعث اجتماعي لوجود جماعي مكون من شخصيات رجالية خالية من أيّ حضور أنثوي، كما أنها تتعلق بموضوع إنساني، ولا يوجد فيها أي مظهر تزييني نباتي أو غير ذلك حتى لم يظهر فيها أي مخلوق أو جنس آخر، وجاءت محددة العدد، وتنطلق من باعث الجلوس الجماعي حول دائرة مستديرة لغرض سياسي أو اجتماعي أو ديني أو دعوى لمأدبة كما لاحظنا ذلك الأسلوب الذي اتبع في لوحة المأدبة في مدينة فيليبوبولس، ثم يتكرر هنا ولكن لهدف ينم عن الحكمة والموعظة والتربية والفلسفة وغيرها من أهداف، وحسب وظائف الشخصيات الموجودة ومفاهيمها وتخصصاتها .
المحور الثاني : يستخلص منه أن شخصيات هذا المشهد جاءت تعبيراً عن رجال عظماء ومن مشاهير العالم في العلم والأدب والفلسفة وغيرها من العلوم المختلفة في القارات الثلاث ’سيا وأفريقيا وأوروبا، أو بحصر المعنى المناطق المحيطة بحوض البحر الأبيض المتوسط والتي كانت وما تزال مشعل الحضارات عبر التاريخ .
وقد تميزت هذه الشخصيات بضلاعتها في جميع الميادين وعلى الأخص في العظة والحكمة والتربية والإرشاد وعل رأسهما سقراط عميد الفلسفة في ذلك العصر في جنوب القارة الأوروبية وبشكل خاص بلاد اليونان، وأرستيب عميد الفلسفة في شمال أفريقيا وخاصة في منطقة الجبل الأخضر في ليبيا، وكذلك تاليس عميد الفلسفة والرياضيات في الجانب الغربي من قارة آسيا، بالإضافة إلى شخصيات أخرى سوف نستعرضها بعد قليل بالتفصيل .
المحور الثالث: يستخلص منه أنه مشهد رمزي تمثل في بداية الأمر رمز للسيد المسيح وأتباعه المباشرين والأكثر التصاقاً به والذين يعتبرون أصحاب المرتبة الأولى في معرفة حقائق وأسرار الديانة النصرانية. وقد تشابهت معارف هؤلاء الدينية وعقائدهم من خلال الشخصيات الستة التي أحاطت بسقراط ثم تمثلت لاحقاً برجال الدين الذين كانوا مواظبين على الحضور في المجامع الكنسية .( )
المشهد باختصار يضمّ سبع شخصيات من شيوخ ملتحين ومزينين بألبسة جميلة ومهيبة مصنوعة من الجوخ المثنى والمثلم ظهرت على شكل أردية من نوع الطيلسانات الرجالية المسترسلة والمنفذة بألوان فاتحة مخصصة للفلاسفة والعديد من الشخصيات المعتبرة في المجتمع .
وقد جاء العرض على شكل دائري مقوس لشخصيات معتبرة يتوسطها سقراط محاطاً بثلاث شخصيات من كل جهة، ويمسك كل واحدٍ في يده لفائف تنسخ فوقها كتابات العظة والإرشاد، بينما يرفع سقراط يده اليمنى مظهراً أنه يدير محور النقاش ويتلو عبارات العظة والإرشاد، بينما الجميع في حالة الجلوس والإصغاء والتفكير والتأمل فيما يقول .
ولم يأت هذا المشهد عرضاً فريداً من نوعه في لوحة مدينة أفاميا، وإنما تكرر في العديد من اللوحات وفي مدن كثيرة، ولكن بتفاصيل مشهدية مختلفة نوعاً ما وذلك إذا قارنا هذا المشهد مع مشهد المحلفين في لوحة فسيفساء قبرص . وكذلك في العديد من اللوحات الرمزية في مدن الإمبراطورية ونخص منها لوحة فسيفساء العقلاء أو الحكماء في مدينة بعلبك .( )
كما تم عرض مثل هذه المشاهد فوق الأحجار الكريمة والرسوم الجدارية والمنحوتات ومنها اللوحة الرائعة والمشهورة باسم لوحة التشريع التي نحتت فوق ناووس في مدفن أسفل الأرض في الشارع اللاتيني في مدينة روما . وجميع مواضيع هذه اللوحات تعتمد على الاقتباس من البواعث التي ترجع إلى المنهج والفهرس الأيقوني الوثني والرمزي الذي انتشر بكثرة في فترة الاضطهاد الوثني للمسيحيين في القرن الأول للميلاد، ولهذا تم استلاف لوحات سقراط والحكماء ورفاقه الحكماء كتعبير عن السيد المسيح والمؤمنين من أتباعه الذين كانوا الواعظين والذين أخذوا على عاتقهم نشر الدين المسيحي وكانت أعدادهم تتراوح بين ستة أشخاص أو أثني عشر شخصاً.( )
ومما يلفت النظر هنا هو الباعث الرمزي الذي دفع الفنان إلى أن يحول شخصية سقراط من فيلسوف وثني كان يتمتع بالاحترام والتقدير كشخصية وثنية موقرة وحكيم من حكماء عصره، بل أكثرهم حكمة ليتحول إلى شخصية تنعطف بالاتجاه المعاكس خصماً ومنافساً حقيقياً للوثنية، وتحول كل تعاليمه لتصب في نهر الإيمان داعية للدين الجديد ورمزاً للسيد المسيح . ثم ليتصدر لوحة أيقونية تحولت فيها الشخصيات من شخصيات وثنية عدائية للدين الجديد إلى شخصيات تدعو إلى هذا الدين .
ومن هنا نجد التجديد والحداثة من منهج وفهرس فن الفسيفساء ونسجه الواقعي، كما يعتبر بداية ثورة حقيقية على الميثولوجية القديمة ليتحول لاحقاً إلى فهرس متكامل شكل بحد ذاته ثورة على الفن ومنهجيته وأصالته الكلاسيكية ليصبح بعد ذلك أيضاً باعثاً لثورة حقيقية على التعاليم السمحة التي بشر بها السيد المسيح ويتحول مصدر ثورة سياسية وعقائدية بين مذاهب الدين نفسه والذي شكل ما عرف باسم أزمة الأيقونات والتي أصبحت ذات علم فني خاص دخل كفهرس جديد في فن الفسيفساء .
ولم تعد الأمور تقتصر على الرمزية وإنما تحول المنهج إلى التصوير الحقيقي لشخص السيد المسيح والسيدة الوالدة مريم العذراء وكذلك الرهبان والقساوسة وكافة رجال الدين ثم ليتحول في تشخيص الإمبراطور والإمبراطورة ليحلوا محل السيد المسيح ومريم العذراء، وتحل محافلهم السياسية محل محافل المجامع الكنسية وهكذا راحوا يستعملون منهج النسج الفسيفسائي كتعبير لكل ملحمة أو مناسبة، وبهذا يعود من جديد إلى مسلكه القديم كفن يترجم ما يدور في حياة المجتمع بواقعية حقيقية وليس بأساطير خيالية .( )
أما بالنسبة إلى تحديد هوية الشخصيات التي ترافقت في العرض مع شخصية سقراط وأحاطت
(لوحة رقم 1) به من الميمنة والميسرة فلم يكن الأمر صعباً بالنسبة إلى الضالعين في معرفة مثل هذه الشخصيات، إلا أن الأمر مع ذلك يبقى موضع اجتهاد وليس يقيناً، وفي كلا المنظورين الوثني والمسيحي . وقد ساعدت قراءة لوحة الفسيفساء في مدينة بعلبك والتي ذكر فيها اسم العقلاء أو الحكماء على تمثيل شخصيات الحكمة والفلسفة ومن بينهم سقراط والذين عرضوا في الميداليات البيضاوية في لوحة بعلبك وكلٌ على انفراد وقد اقترح بعض العلماء تمثيل عمالقة الفلسفة الإغريقية والذين عرفوا بأعمدة الحكمة السبعة ووظفوهم في هذا المشهد على الشكل التالي بدءاً من الجهة اليسرى )
1 ـ كليوبول الفيلسوف الأول من الجهة اليسرى رمز الحكمة ذو الشعر الغزير والقصير المجعد . (لوحة رقم 2)
2 ـ بيرياندر الحكيم الثاني ذو العيون الصغيرة والغائرة في حاجبيها .
3 ـ بياس الحكيم الثالث والمنحرف قليلاً . ( لوحة رقم 4 )
4 – تالس الحكيم الرابع والأول من الجهة اليمنى من سقراط ويتميز بالوجه السمح المتأمل مع جمة شعر كثيفة ورأس يرتكز على المعصم .
5 – سولون الحكيم الخامس
6 – شيلون أسبارطة الحكيم السادس حيث يظهر في قسماته المميزة والمعروفة .
وهكذا أبدع الفنان في أفاميا في رسم ونسج وإخراج لوحة فسيفسائية بمنهج أيقوني بديع يعبر عن الحكمة والفلسفة والأدب والعقيدة بواقعية ورمزية في آنٍ واحد وبتكييف الألوان والمكعبات بشكل ينسجم مع الشخصيات المعروضة ومع الهدف من العرض . وبذلك أضيفت لوحة جديدة إلى الإرث الحضاري السوري المتمثل في فن الفسيفساء والأيقونات والتشخيص الرمزي .


المراجع :
خليل المقداد الفسيفساء السورية والمعتقدات الدينية القديمة ( الميثولوجيا ) دراسة مقارنة – وزارة الثقافة – الهيئة السورية للكتاب – دمشق – 2008 .
BALTY، janine، Mosaïques Antiques De Syrie، Bruxelles، 1977 . p 78 – 81.
BALTY، Jean ch . Guide d,APAMEE، Bruxelles1981 . p 187 – 190
BALTY، Jean ch .Julien et Apamée . Aspects de la restauration de l,,hellénisme et de la politique antichrétienne de l,empereur dans Dialoques d,histoire ancienne، I . 1974 .
BALTY، Jean ch . Nouvelles Mosaïques du IVe siècle sous la cathédrale de l,est، dans Apamée de Syrie . Bilan des recherches archéologiques 1969 ـ 1971، Bruxelles، 1972 . p . 163 ـ 184 ـ Guy Rachet . Dictionnaire de l,archeologie . Paris 1983 P 69
HANFMANN، G . M . A . Socrates and Christ dans Harvard Studies in Classical philology LX 1951, pp 205 ـ 233 .
LAPUCCI، Mario . Mosaic floors at Cyprus
Ravenna، Italia 1988 . p، 61, 27 .