وحيث أن لكل علم موضوعاً، هو جامع موضوعات مسائله، ومحمولاً هو جامع محمولات مسائله، ومسائل موضوعاتها صغريات كـــلي الموضوع، ومحــمولاتها صغريات كلي المحمول، وبهذه الوحدة الاعتبارية يؤثر ذلك العلم في غرض خاص، هو مورد توجه المدون لذلك العلم… كان لعلم الاجتماع أيضاً تلك الأمور الثلاثة:
أ ـ فموضوع علم الاجتماع هو [كيفية الحياة البشرية من حيث الاجتماع]… وكما إذا قلنا: إن موضوع علم النحو [الكلمة من حيث نطق آخرها] كانت [الكلمة] موضوعاً للعلم جامعاً لموضوعات مسائله و[من حيث نطق آخرها] محمولاً للعلم، جامعاً لمحمولات مسائله… كذلك موضوع علم الاجتماع [كيفية الحياة البشرية] ومحموله [من حيث الاجتماع].
ولا يخفى أن علم الاجتماع بمعناه الأعم، يشمل الاجتماع الحيواني أيضاً مثل حياة النملة والنحلة والأرضة، وما أشبهها، لكن المهم عندنا الآن علم الاجتماع بمعناه الخاص، أي الاجتماع الإنساني.
ب ـ وسائل علم الاجتماع، صغريات ذلك الموضوع والــمحمول العـــامين مثل البحث عن الاجتماع المتقدم والمتأخر، والصناعي والزراعي وغيرهما، والمثقف والجاهل، والغني والفقير، والمستعمر والمستَعمر، إلى غيرها من المسائل الكثيرة.
ج ـ والغرض من هذا العلم: كشف القوانين الاجتماعية العامة أو الخاصة، لأجل معرفة الخطأ والصواب في الاجتماع، حتى يمكن انتشال الاجتماع المتأخر بترشيده الفكري ليعرف مواقع خطئه فيتجنبها، ولحفظ الاجتماع المتقدم عن الانحطاط بممارسة المناهج الصحيحة دائماً، ولحث الاجتماع المتقدم للمزيد من التقدم.
وبذلك ظهر [تعريف علم الاجتماع] بأنه معرفة القوانين الحاكمة على الحياة البشرية من حيث الاجتماع(1).
مهمة علماء الاجتماع
ثم إن العالم الاجتماعي، لدى ملاحظته الاجتماع ووضعه حيث يكلف ببيان الروابط الاجتماعية يلزم عليه:
(أولاً): بيان:
1 ـ الروابط الأحيائية المبعثرة.
2 ـ الروابط التي يجري عليها الاجتماع عادة وتقليداً في شؤونه المتنوعة من ساعة ولادته إلى ما بعد موته، مما يشبه المؤسسات الدائمة، مثلاً: كل اجتماع له مراسيم خاصة للولادة، ومراسيم خاصة للزواج، ومراسيم خاصة للموت، ومراسيم خاصة للتهنئة والتعزية، مما يجري في الاجتماع نسلاً بعد نسل، وكأن تلك المراسيم مؤسسات تحقق خير الإنسان من ساعة ولادته إلى ساعة إهالة التراب مثلاً على قبره.
3 ـ الروابط الدائرة في مؤسساته المختلفة من رسمية أو اقتصادية أو سياسية أو غيرها.
و(ثانياً): بيان مواضع الخطأ والصواب، والحسن والأحسن، والسيء والأسوء، في تلك الأمور الثلاثة الآنفة الذكر، مثلاً: في مراسيم، الموت: من عادة بعض الوحوش أكل لحم ميتهم، ومن عادة بعض المبذرين دفنه بأشياء ثمينة، ومن عادة بعضهم حرق ميتهم، ومن عادة بعضهم دفنه في تابوت، كما أن من عادة المسلمين دفنه بعد تنظيفه [بالغسل] ولفه في ثوب نظيف [كالكفن] إلى غير ذلك، فاللازم على علم الاجتماع أن يبين فلسفة الفساد في الفاسد، والصلاح في الصالح، وبذلك يقرب الاجتماع إلى ما يصلحه ويقدمه، ويبعده عما يفسده ويؤخره.
ثم إن علم الاجتماع لما كان يأخذ سير الاجتماع وخصوصياته ومزاياه، فهو مجموعة علوم، ألغيت فيها جانب مزايا تلك العلوم، وأدرجت في علم الاجتماع، ولذا فاللازم ملاحظة أربعة أمور:
1 ـ علم الاجتماع من حيث الغرض.
2 ـ علم الاجتماع من حيث الموضوع.
3 ـ علم الاجتماع من حيث السند.
4 ـ علم الاجتماع من حيث الحدود.
علم الاجتماع النظري والعملي
أ ـ أما علم الاجتماع من حيث الغرض، فإنه ينقسم إلى:
1 ـ النظري.
2 ـ العملي.
فالأول: هو الذي يعتمد على الذهن أكثر مما يعتمد على الخارج بأن يأخذ من الخارج أشياء ليكشف بها القوانين العامة الحاكمة على الاجتماعات والمؤسسات الاجتماعية، من دون نظر إلى كيفية التطبيقات، بينما الثاني يهتم بالجانب العملي، أي كيف يمكن تطبيق تلك القوانين على الخارج، مثل: أنه كيف يمكن إصلاح الاجتماع؟ كيف يمكن التخطيط والهندسة للاجتماع؟ كيف يمكن القيام بالثورة الاجتماعية؟ وإلى آخره، مثلهما في ذلك، مثل من يتعلم قواعد علم الطب، ومن يتعلم كيف يطبق تلك القواعد على الخارج؟
علم الاجتماع سعة وضيقاً
ب ـ وأما علم الاجتماع من حيث الموضوع، فإن العالم الاجتماعي قد يتكلم، حول هذا العلم بمعناه العام من دون ملاحظة كل مسألة مسألة على حدة، وقد يخصص علمه بمسألة خاصة من هذا العلم، فإنه قد توسعت فروع علم الاجتماع، إلى علم الاجتماع السياسي، وعلم الاجتماع الاقتصادي، وعلم الاجتماع الـــصناعي، وعلم الاجـــتماع الزراعي، وعلم الاجتماع القضائي وعلم الاجتماع الحقوقي، وعلم الاجتماع الديني، والى غير ذلك.
(فالأول): وهو علم الاجتماع ـ بمعناه العام والمطلق ـ يأخذ من كل علم من هذه العلوم قدراً أساسياً، ويتكلم حوله باقتضاب، بينما (الثاني) يجعل أي فرع من تلك الفروع موضع هدفه، ويتكلم فيه بإسهاب، ويلحق بهذا القسم الثاني [فرع الفرع] كما إذا أخذ عالم الاجتماع [جانب الإنتاج الاجتماعي] أو [جانب التوزيع الاجتماعي] بالنسبة إلى الاقتصاد أو [جانب الأحزاب الاجتماعية] أو [جانب القدرة الاجتماعية] بالنسبة إلى السياسة.
علم الاجتماع من حيث السند
ج ـ وأما علم الاجتماع من حيث السند، فإن العالم الاجتماعي قد يسند في استخراجه القوانين إلى الوثائق والمدارك التاريخية، وذلك فيما إذا أراد التحقيق حول [الاجتماع التاريخي] وقد يسند في استخراجه القوانين إلى الاجتماع الحاضر المشاهد، وذلك فيما إذا أراد التحقيق حول [الاجتماع الحاضر] وإذا أراد عالم الاجتماع التحقيق حول ما سيكون عليه الاجتماع في المستقبل كان لابد وأن يسند إلى كلا السندين، لأجل التكهن بالمستقبل، في حدود الإمكان.
علم الاجتماع وسائر العلوم
د ـ وأما الأمر الرابع، وهو علم الاجتماع من حيث الحدود مع سائر العلوم، وبين علم الاجتماع المطلق، وعلم الاجتماع الخاص، فهو على ثلاثة أمور:
1 ـ بين العلم العام والخاص، أي علم الاجتماع بصورة مطلقة، وعلم الاجتماع السياسي مثلاً، والنسبة بينهما نسبة [العموم المطلق] حيث الثاني أخص من الأول، نعم، هناك أمور تذكر في الخاص من حيث الاستيعاب لا يذكر في العام إلاّ بالإجمال والإيجاز.
2 ـ بين علم الاجتماع العام، وعلم الزراعة مثلاً، والنسبة بينهما [عموم من وجه] حيث أن علم الاجتماع يشمل الزراعة الاجتماعية والصناعة والسياسة وغيرها، بينما علم الزراعة يشمل هذا العلم سواء من جهته الاجتماعية أو سائر جهاته.
3 ـ بين علم الاجتماع الخاص، مثل علم الاجتماع الاقتصادي، وبين علم الاقتصاد، والنسبة بينهما عموماً من وجه، حيث أن [علم الاجتماع الاقتصادي] يلون علم الاقتصاد بلون الاجتماع، بينما ليس هذا موجوداً في علم الاقتصاد ومن ناحية أخرى، علم الاقتصاد يتعرض لما لا يتعرض له علم الاجتماع الاقتصادي مثل تاريخ الاقتصاد، وكيفية تحصيل الدولة لما تحتاجه من المال وكيفية صرفه، وأمور البنك وغير ذلك.
ما يجب ملاحظته في التحقيق الاجتماعي
بقي شيء، وهو أن من أهم ما يلزم على العالم الاجتماعي في تحقيقاته ملاحظة أمور:
أ ـ الدقة في التحقيق [فإنه بالإضافة إلى أن العلم أمانة، والخيانة من أشد المحرمات الشرعية العقلية].
قال سبحانه: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً)(2).
إن عدم استقامة القوانين والنظريات الاجتماعية ينتهي إلى ظلم الناس، وذلك محرم عقلاً وشرعاً أيضاً، مثلاً: لو لم يحقق العالم الاجتماعي في الفوائد الاجتماعية لتعدد الأحزاب، مما حبّذ وحدة الحزب اجتماعياً انتهى إلى الديكتاتورية الموجبة لهدر الأموال والأعراض والدماء، فإن العلم يأخذ طريقه إلى العمل غالباً.
قال سبحانه: (وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم)(3).
وقال سبحانه: (ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم)(4).
وقال سبحانه: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) (5).
ب ـ عدم التعصب، فإن المحقق كثيراً ما يقع تحت نير التعصب، وذلك يحرف تحقيقه مما له آثار سيئة، ولا فرق في ذلك بين التعصب لبلده، أو قومه أو دينه، أو جماعته، أو غير ذلك.
ج ـ عدم تأثير القدرة عليه، سواء في الحكومات الديكتاتورية بسبب المال والسلاح، أو في الحكومات الاستشارية بسبب المال والجاه، ولذا نرى سقوط كثير من المؤرخين لأجل تزلفهم للسلطات خوفاً أو طمــعاً، فلا عبرة بتواريخهـــم، وهكذا حال غير المؤرخ من العلماء الذين يتأثرون بالقدرة، ويصبحون فقهاء البلاط، أو وعاظ الملوك، أو شعراء وكتاب الأمراء.
د ـ عدم تأثره بالدعاية والأجواء، فإن عدم الاحتياط والحزم والدقة، يسقط العالم في الأجواء المصطنعة، بدعاية أو غيرها، فإن ذلك أيضاً يوجب الانحراف المسقط للعالم الاجتماعي، وغيره عن درجة الاعتبار ديناً ودنياً.
وقد ورد في الحديث: (رحم الله إمرءا عمل عملاً فأتقنه)(6).
وورد أيضاً: (من أبدى صفحته للحق هلك)(7).
وقال سبحانه: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل له مما يكسبون)(
.
وفي الحديث: (فلا يغرنك طنطنة الرجال من نفسك) منقول.