أحمد اسماعيل اسماعيل
عندما يغني شمدينو
مسرحية قصيرة
( الوقت: عصر .. فناء دار طينية قديمة ، تتوسطه شجرة توت هرمة أغصانها متدلية ومتشابكة ، ثمة بئر غير بعيدة عن الشجرة . يدخل رجل مسن من باب خشبي عتيق لغرفة واطئة ، يجلس القرفصاء تحت الشجرة يتأمل ما حوله بنظرات فاحصة وعينين كسيرتين .. لحظات وتتبعه امرأة عجوز . تغمغم بكلمات رتيبة وهي تمصمص كسرة خبز يابسة . تجلس إلى جانب الرجل )
المرأة : (بتوجع ) آخ .. لا أعرف كيف صليت .
الرجل : ...
المرأة : اللعنة على العجز وآلامه ، حتى الصلاة صرت عاجزة عن القيام بها . مغفرتك يا رب . والله إني أتنفس بصعوبة .
الرجل : (دون أن يلتفت ناحيتها ) أيؤلمك قلبك كثيراً يا فاطمة ؟
المرأة : أحس من شدة خفقانه بأنه سيتوقف بين لحظة و أخرى .
الرجل : (بعد صمت قصير) هل نفد دواؤك ؟
المرأة : (بسخرية مرة ) دواء ؟! لقد نسيت طعمه منذ زمن بعيد .
الرجل : لماذا لم تخبريني يا امرأة ؟
المرأة : بماذا أخبرك يا رجل ؟ ليت هذا القلب يتوقف إلى الأبد .
الرجل : وأبقى وحيداً ؟!
المرأة : لتتخلص من همي وترتاح ..و أرتاح أنا أيضاً .
الرجل : آه فاتي ..لو تدرين بماذا أحلم لما قلت هذا الكلام لشمدينو .
المرأة : (باستغراب ) تحلم ؟! ياه .
الرجل : أي نعم .. أحلم .
(يدندن . المرأة تهز رأسها على إيقاع دندنته .. )
المرأة : لم تقل بماذا تحلم ..؟
الرجل : أحلم بأن أشتري لك بابور غاز .. هل تعرفين ما بابور الغاز يا فاتي ؟
(المرأة تحملق فيه دون أن تفهم شيئاً) أنا أعرفه . نعم ، رأيته في إحدى المرات في بيت ابن أوصمانو ..اسمعي . ما أن تشعلي عود الثقاب ثم تقربيه من هذا البابور حتى يشتعل فوراً،كم هو مريح هذا الغاز، إنه شيء مدهش ..مدهش حقاً .
المرأة : لا بد أنه ينضج الطعام بسرعة . أليس كذلك ؟
الرجل : أوهو.. بسرعة عجيبة .
المرأة : (بانكسار وهي تعالج كسرة الخبز بأسنانها)يا حسرة . وماذا أصنع به ؟
الرجل : وأحلم بتمديد صنبور ماء إلى الحوش . إنه خير من الدلو .. هذه البئر تضاعف من آلامك .
المرأة : والبيت . ألا تريد أن تصلحه ؟ أخشى أن يقع على رأسينا يوماً ما .
الرجل : سأصلحه ، وسأبني لك حماماً مستقلاً .. حماماً مستقلاً يا فاتي !!
المرأة : حمام ؟!
الرجل : نعم . ألا تصدقين ؟
المرأة : ....
الرجل : لا بد أن هذا سيعسدك كثيراً ، و يخفف من آلام قلبك .
المرأة : ....
الرجل : (بضيق ) فاتي ؟
المرأة : ماذا ؟
الرجل : لماذا لا تقولين شيئاً ؟
المرأة : وماذا تريد أن أقول ؟
الرجل : لا أعرف .. قولي أي شيء .
المرأة : (بعد صمت ) شمدينو .
الرجل : نعم .
المرأة : ألست جائعاً مثلي ؟
الرجل : (بانكسار ) أنا ؟
المرأة : لليوم الثاني لم نتناول أي طعام .
الرجل : ...
المرأة : ما بك يا رجل ؟!
الرجل : (يدندن بحزن وألم )...
المرأة : منذ أيام عديدة لم يطرق أحد باب دارنا .. هل خلت الدنيا من أهلها ؟
الرجل : لا أحد ؟!
المرأة : نعم . لا أحد .. لا أحد سوانا .. وهذه القطة المسكينة .
الرجل : أيام زمان كان هذا البيت يمتلئ بالرجال .. هل تذكرين ذلك ؟
المرأة : وكيف أنسى ، كانت أيام عز وجاه ، كنا خالاً وعمة للكثيرين .
الرجل : كانوا رجالا كالقطط .. يا خسارة .
المرأة : كنا في كل سنة نذبح بقرة أو اثنين .
الرجل : لم يكن يخلو بيتنا من اللحم .
المرأة : كنت أجففه وأصنع منه القلِّية ، أتذكر القلَّي ؟
( تضغط على بطنها مربدة الوجه ..)
الرجل : (يتلمظ) وكيف أنسى القلَّي ؟!
المرأة : أما الآن ..
الرجل : (يدندن ) ..
المرأة : عندما أشم رائحة اللحم عن بعد أحس .. أحس بأنني ..
( يتهدج صوتها .. فتصمت )
الرجل : ( يدندن) ...
المرأة : مرات .. مرات كثيرة أنسى وجع قلبي من شدة الجوع .
الرجل : (يدندن )...
المرأة : ( تنصت ) هس . اسمع
(لحظة صمت وترقب . يسمع صوت صرير الباب )
الرجل : (مستبشراً ) هل قدِم إلينا أحد ما ؟
( القطة تموء ..)
المرأة : (بخيبة ) لا. إنها هذه الملعونة . لا أفهم سبب مكوثها هنا . (للقطة ) بس .
بس .
الرجل : إنها أصيلة ..أكثر أصالة من الكثيرين .
المرأة : هذا صحيح . حتى أعز أصدقائك لم نر أحداً منهم منذ زمن بعيد .
الرجل : (بسخرية ) أصدقاء ؟! من تقصدين ؟
المرأة : حسو و أوصمانو .
الرجل : حسو مات يا فاتي . مات المسكين وترك أحفاده اليتامى الذين كان يعيلهم
للحاجة والشارع .
المرأة : حقاً ؟!
الرجل : نعم .
المرأة : الله يرحمه ، كان رجلاً طيباً .
الرجل : كان يحلم دائماً بأن يرى الملا . أن يصافحه ويقبل يده .
المرأة : المسكين ، لم يحقق شيئاً من أحلامه .
الرجل : ومن منا حقق أحلامه ؟
المرأة : و أوصمانو .. ما أخباره هو الآخر ؟
الرجل : أوصمانو رجع إلى سابق عصره ؛ محمودكياً عنيداً .
المرأة : ماذا تقول ؟ هل عادت هذه اللعنة مرة أخرى ؟!
الرجل : نعم يبدو أنها لم تغادر قلوبنا .. وأخشى أن تدوم إلى الأبد .
المرأة : لكنكم مع ثورة الملا قلتم : لا محمودكية ولا عثمانكية بعد اليوم .
الرجل : نعم .وعندما مات الملا ارتد كل واحد منا إلى ما كان عليه من عصبية.
المرأة : (بجزع .بعد تفكير قصير ) هل قلت : مات الملا . هل مات حقاً ؟!
الرجل : نعم ، ألم أذكر لك ذلك مراراً يا امرأة ؟!
المرأة : بلى . لكني لم أصدقه .أقصد ..
الرجل : معك حق ، أكاد،أنا أيضاً ،لا أصدق موت هذا الرجل، الله يرحمك يا ملا
مصطفى .
المرأة : (بخوف ) شمدينو .. ولمن تركنا الملا ؟!
الرجل : (يدندن )...
المرأة : شمدينو .
الرجل : ...
المرأة : آه لو كان ابننا هنا .
الرجل : ...
المرأة : (بغيظ) كان عليك أن تمنعه من الهجرة . إنه وحيدنا .
الرجل : وحيدنا لم تكن تعجبه حياتنا .
المرأة : لمن تركتنا يا ولدي ؟
الرجل : لا بد أنه سعيد هناك .
المرأة : هل ستراه عيناي مرة أخرى ؟
الرجل : ماذا ستفيده عيناك يا امرأة . عيون الشقراوات هناك أجمل . (يضحك)
المرأة : وي . وي أتضحك من شقاوة ابنك يا رجل ؟! .
الرجل : (بتخابث ) إنه ابن أبيه . هل نسيت أيام أبيه ؟ (يلكزها )
المرأة : (تضغط على قلبها بألم ) أووه .. ألا زلت تذكر تلك الأيام !
الرجل : نعم . ولن أنسى نظرات فتيات كَولي الجميلات .
المرأة : (بغيرة بسيطة ) ولن أنسى غيظي منك ومنهن .
الرجل : (بسعادة ونشوة) كان غيظك مبعث سعادة فائقة لي .
المرأة : لهذا كنت لا تنفك تتردد يومياً على نبع القرية .
الرجل : (يضحك بنشوة ) ..
المرأة : كنَّ أحياناً يتشاجرن بسببك .
الرجل : وأنت فاتي . هل تشاجرت معهن بسببي ؟
المرأة : لا . كنت أصمت وفي دخيلة نفسي أتمنى أن أفقأ أعينهن جميعاً .
الرجل : لكنك فقأت أعينهن يوم عرسنا .
المرأة : (حالمة ) نعم . كأن يوم العرس كان البارحة .
الرجل : (حالماً ) يومها راح شباب القرية يلحون عليَّ كي أرقص .
(صوت الطبل والمزمار يتصاعد ..)
المرأة : أذكر ذلك . حينها رقصت كغزال .
(يتجسد الحلم مع ارتفاع صوت الموسيقى ويبدأ الرجل بالرقص شيئاً
فشيئاً )
الرجل : وصار والدي يصيح :هيه.. تعالوا يا شباب كَولي،اليوم عرس شمدين.
هيا إلى الدبكة . هيا ..
المرأة : وأنا كدت أطير كالعصفورة . فرحت أرقص وأرقص ..
(المرأة تشاركه الرقص .. أصوات مختلطة . هرج ومرج )
صوت : اقرع بقوة يا رجل .
(صوت الطبل يعلو ..)
صوت : أين الشباب . هيا يا شباب .
صوت : شاباش .
(زغاريد النساء تشق عنان السماء ..)
المرأة : ( تقف . بألم ) آه ..
الرجل : (يهز رأسه طرباً ) هيا يا شباب
المرأة : (بتوجع ) شمدينو .
(الموسيقى تخفت )
الرجل : ياه ...
المرأة :سأموت .
(صمت تام .. يلتفت الرجل ناحيتها كمن استيقظ من حلم )
الرجل : ما بك يا فاتي , أهو قلبك مرة أخرى ؟
المرأة : ( تتألم ) ...
الرجل : لماذا لا تجيبين يا امرأة ؟
المرأة : لم أعد أعرف ما يؤلمني .. قد يكون قلبي . وقد تكون معدتي الخاوية .
الرجل : ( يتحسس معدته ) لو تذكرنا ابنك وأرسل لنا أي شيء .. لكنه كلب .
المرأة : ( بجزع ) لا تغضب منه , كم أنا خائفة عليه .
الرجل : اطمئني , أحضان الكافرات قد أنسته حليب أمه .
المرأة : كيف لا أخاف عليه و عيناه زائغتان مثلك . إنه كولي أصيل .
الرجل : قلت اطمئني يا امرأة . هناك لا يهتمون مثلنا بالشرف .
المرأة : وهل هناك من لا يهتم بشرفه ؟!
الرجل : نعم . الرجل هناك يحب أكثر من امرأة ،و المرأة .. ( يهمس في أذنها .
يضحك ..)
المرأة : (باستغراب ) أستغفر الله . أستغفر الله و أتوب إليه.ما هذا الكلام الغريب؟!
الرجل : إنها الحقيقة . آخ لو كنت هناك الآن .
المرأة : عيب يا رجل، لقد هرمت ، لم يبق فيك خير .
الرجل : ( بانفعال ) أنا هرمت ؟! إنك تهذين . أنا مازلت أقوى من ابن العشرين .
المرأة : ( تكتم ضحكة ساخرة ) ...
الرجل : أتسخرين مني . الآن لم أعد أعجبك يا بنة عليكو ؟!
المرأة : ( باضطراب ) لم أقصد السخرية يا رجل . إنه الجوع . الجوع أفقدني
صوابي .
الرجل : ( بضيق ) الجوع . الجوع . كفى يا امرأة ، ألا تفكرين إلا ببطنك ؟!
المرأة : وهل طلبت قلية ؟ تكفيني كسرة خبز ؛كسرة خبز غير يابسة .
الرجل : ( يطأطئ رأسه بحزن ) ...
المرأة : هل هذا كثير عليَّ ؟!
الرجل : ( يدندن ) ....
المرأة : ( تحدق في السماء بإمعان ) هل هبط الليل ؟
الرجل : ( يدندن ) ..
المرأة : ( تجيل ببصرها فيما حولها ) غريب !
الرجل : ( يتأملها.بعد صمت ) فاتي .
المرأة : (تنشج ) ..
الرجل : هل أنت جائعة كثيراً ؟
المرأة : ( تمسح دموعها بصمت )..
الرجل : أعرف أنك تتألمين من ..
المرأة : لو كان للصخر قلب لأنفطر حزناً علينا .
الرجل : هل سئمت مني يا فاتي حتى.. (يتهدج صوته فيصمت ).
المرأة :لا . بل سئمت من روحي اللعينة .
الرجل : إذن.. أنت مللت من طول قعودي في البيت ؟
المرأة : (بيأس ) شمدينو..
الرجل : لقد صدق ظني.
المرأة : أوه..
الرجل : (بقهر وكبرياء ) أيام زمان كنت تتوسلين إلي أن أبقى ليلة واحدة في
البيت،ليلة أبقى فيها إلى جانبك ولا أخرج فيها إلى الجبل،أما الآن..
(يصمت بأسى )
المرأة : ايه..أيام زمان !! ليتها تعود.لكن..
الرجل : لكن ماذا ؟! لم يبق إلا أن تقولي لي : انقلع. لعنة الله على العجز.
المرأة : (باستغراب ) أنا ؟ أنا أقول هذا الكلام ؟! كيف تفكر بذلك يا رجل ؟!
فليشل الله لساني ويدي قبل أن أنطق بكلمة كهذه، لكن..
الرجل
يقاطعها. انفعال ) لكن ماذا ؟ لكن تريدين أن أخرج إلى العمل .أنا أعرف
ما تفكرين به .أنا لست غبياً. لكنني.. ( ينشج بحرقة )
المرأة : (مرتاعة وحائرة )..
الرجل : ...
المرأة : شمدينو أنا أريدك أن تبقى في البيت دائماً،أن أسمع في كل لحظة صوتك
يجلجل في الدار وأنت تناديني: فاتي هاتي الماء..فاتي أسرعي بالطعام،فاتي
افعلي كذا ، فاتي لا تفعلي كذا..يا الله ما أعذب وأرق اسمي وهو يجري
على لسانك !!
الرجل : ..
المرأة : أتذكر ؟ أتذكر أيام زمان؟ عندما كنت تعود من الجبل بطريدة أو اثنتين ؟
الرجل : ..
المرأة : كنت في كل عودة لك ،كنت أريد أن أزغرد وأهتف ملء صوتي : شمدينو
عاد. بطلي رجع ،لكن الخجل ،الخجل وحده كان يمنعني من فعل ذلك .
الرجل : ..
المرأة : لكن عندما عدت ذات يوم بذئب ضخم، الذئب الذي كان قد دوخ رجال
القرية، كنت سأزغرد وأرتمي بين أحضانك .
الرجل : (بحسرة وبما يشبه التمتمة ) كأنه حدث البارحة .
المرأة : نعم، وضعت يدك على فمي وقلت : فاتي عيب. فصمت من فوري.
الرجل : كنت ستفضحيننا في القرية .
المرأة : صارت النسوة ينظرن إلي بحسد وغيرة .
الرجل : لقد فرت تلك الأيام..فهل ستعود يوماً ؟
المرأة : ( تحس بدوار مفاجئ .تمسك رأسها ) ما الذي يجري يا ربي ؟!
الرجل : ماذا ؟ ما الذي يجري يا فاتي ؟
المرأة : السماء تدور بي ، والشجرة.. الجدران أيضاً !
الرجل : ( يحاول النهوض فيسقط ) آخ..
المرأة : (بخوف ) شمدينو..ماذا حدث لك؟ هل أصابك مكروه ؟!
الرجل : لا .لا شيء ،إنه ألم في الرأس و..البطن .
المرأة : هذا سببه الجوع والمرض .
الرجل : ماذا ؟!
المرأة : أعرف أنك جائع مثلي..وربما أكثر .
الرجل : ...
المرأة : قل شيئاً يا رجل .
الرجل : ( بأسى ) في الجبل كنت أقضي أياماً وليالي طويلة دون أن أتناول فيها
طعاماً ؛ورغم ذلك لم أكن أحس بهذا الجوع الذي..
المرأة : (بعد صمت قصير ) الآن كبرنا يا رجل..لقد هرمنا .
الرجل : ( ينظر إلى السماء ) غريب ! لقد هبط الليل سريعاً !
المرأة : ( ترفع رأسها إلى السماء ) لا. لم يهبط الليل ، يبدو أن غيمه عابرة حجبت
وجه الشمس .
الرجل : ربما .
المرأة : ( تشمشم .بسرور) إنه الخبز !! ألا تشم رائحة خبز ؟
الرجل : ( يشم،مستبشراً ) فعلاً. إنها رائحته .
المرأة : ( بسرور زائد ) لا بد أن أحدهم قد تذكرنا .
الرجل : (بارتياح ) وأخيراً .
المرأة : الحمد لله .
الرجل : أولاد الحلال كثر يا امرأة .
( لحظة ترقب وانتظار يستنشقان فيها رائحة الخبز بسعادة،ترتسم بعدها
أمارات الخيبة والمرارة على وجهيهما )
المرأة : (بانكسار ) لقد ابتعد .
الرجل : ..
المرأة : لم يكن الخبز لنا .
الرجل : (يدندن ) ..
المرأة : مرَّ من أمام باب دارنا ولم.. منذ زمن لم يطرق أحد بابنا !
الرجل : (يكف عن الدندنة. بعد صمت قصير ) أين ذهبت القطة ؟ لم أعد أسمع
مواءها .
المرأة
بيأس ) لا أعرف ، لتذهب هي الأخرى إلى الجحيم .
الرجل : لا تكوني قاسية عليها يا امرأة .
المرأة : غريب ! لم تكن تطيق سماع صوتها ؟! ولا رؤية القطط .
الرجل : ماذا أفعل ، صوتها يشعرني بالحياة ،يشعرني بأنني مازلت أعيش .
المرأة : ستتركنا هي الأخرى ، ستغادرنا كي لا تموت من الجوع .
الرجل : (بامتعاض ) ها قد عدت إلى الشكوى مرة أخرى .
المرأة : وماذا قلت ؟! قلت ستغادرنا كي لا تموت من الجوع . حتى الفئران هربت
ولماذا لا تهرب وهي لا تجد لدينا ما تأكله .
الرجل : آه لو كان لدي ما يكفي من نقود ل..
المرأة : ل.. لماذا يا شمدينو ؟ أكمل . لتتزوج بها .أليس كذلك ؟
الرجل : بل لأجدد شبابي ،أو أذهب إلى هناك . ولكن ابنك الكلب لم يرسل إليَّ قرشاً
واحداً.
المرأة : ( بانفعال وخوف) لن ادعك ترحل لتلحق امرأة أخرى.فاطمئن .
الرجل : ( برضى وسرور) هل تغارين عليَّ يا فاتي ؟
المرأة : نعم . أكون كاذبة وحمقاء لو قلت غير ذلك .
الرجل : حقاً ؟
المرأة : طبعاً .
الرجل : إذاً أنت امرأة حمقاء . (يضحك )
المرأة : وأنت، ألا تغار عليَّ ؟
الرجل
يحدجها بنظرة عتب واستغراب ) الآن ؟! أغار عليك وأنا في هذا العمر
يا امرأة ؟!
المرأة : نعم .ولم لا . أيام زمان،أتذكر ؟ كانت غيرتك عليَّ مجنونة .
الرجل : (بابتسامة أسى ) نعم. ولا زلت يا فاتي.
المرأة : ( بسرور زائد ) حقاً ؟!
الرجل : نعم .وكما يوم حملق فيك خضرو التالاتي ، هل تذكرين ذلك اليوم ؟
المرأة : نعم أذكره جيداً كما لو حدث البارحة ،رميته أرضاً ورحت تركله وكأنه
حيوان .
الرجل : طبعاً حيوان ، نظراته الوقحة إليك لم تعجبني .
المرأة : مسكين خضرو .
الرجل : (بانفعال ) مسكين ؟! ماذا يعني هذا يا ابنة عليكو ؟!
المرأة : ( بسعادة وخوف ) لا شيء.. أما زلت تحبني كما كنت في السابق ؟
الرجل : طبعاً .
المرأة : ( بما يشبه الدلال ) لكني لم أعد جميلة كالسابق، لقد هرمت .
الرجل : ليكن ، ستبقين وردة أومريان الجميلة .
المرأة : وردة أومريان ؟! ياه !! كنت دائماً تقول لي هذا الكلام . (بأسى )
لكن هذا كان فيما مضى،وهناك، أما الآن.وهنا..آه..مما جرى لنا !!
( يسود صمت قصير وثقيل. يدندن بعدها الرجل بقهر )
الرجل : ( يدعك عينيه فجأة ) لقد حلَّ المساء سريعاً .
المرأة : ماذا قلت ؟
الرجل : كم أتمنى أن أخرج الآن .
المرأة : إلى أين ؟!
الرجل : يجب أن أخرج .
المرأة : لماذا ؟
الرجل : لأجلب لك الدواء.
المرأة : أنا لا أريد الدواء ، كسرة خبز تكفيني،إني جائعة جداً يا شمدينو .
الرجل : ( لنفسه ) جائعة ..وماذا أقول أنا يا فاتي ؟
المرأة : هل ستخرج ؟
الرجل : (بحرج ) ماذا ؟
المرأة : كيف ستأتي بالطعام؟ وهل تملك نقوداً ؟
الرجل : (يدندن ) ..
المرأة : (تدلك صدرها ) ضربات قلبي تتسارع كوقع حوافر حصان..إنه يؤلمني.
الرجل : ( يدندن ) ..
( صمت ثقيل تعبر عنه موسيقى مناسبة. يحل الظلام شيئاً فشيئاً )
المرأة : اسمع ما سأقوله يا شمدينو . إذا مت قبلك فلا تتصدق على الفقراء بأي شيء
من طعام أو.. ما ستمنحه للآخرين كلْه أنت؛ أنت أولى به .
الرجل : (كمن لم يسمعها ) فاتي .
المرأة : (دون أن تسمعه ) اغفر لي يا شمدينو ،سامحني يا رجل، يقال :إن المرأة
لا تدخل الجنة إن لم يكن زوجها راضياً عنها .
الرجل : ( دون أن يسمعها ) اسمعي ما سأقوله لك يا امرأة ،أود أن أقول ..
المرأة : شمدينو..يجب أن ترضى عني كي ..
الرجل : إذا مت لا تبكي كثيراً، البكاء سيؤثر على عينيك .
المرأة : أين ذهبت يا رجل ؟ شمدينو .
الرجل : إنها وصيتي .
(تغيم الأشياء أمام أعينهما،وتشتد حلكة..صمت كموسيقى صاخبة يسود
المكان،يتحدثان معاً دون أن يسمع أو يرى أحدهما الآخر )
المرأة :لا تتركني وحدي يا رجل. إذا مت الآن فمن سيدفن جثتي ؟
الرجل : أين ذهبت يا امرأة ؟
( يتحسسان ما حولهما بخوف وذهول )
المرأة : لا تذهب، أنا أخاف الوحدة كثيراً .
الرجل : ( لنفسه ) أين ذهبت في هذا الوقت المتأخر ؟!
المرأة : غنِّ يا شمدينو ,غنِّ أرجوك،صوتك يؤنسني..يذهب عني الخوف..غنِّ.غنِّ
( تدندن مشجعة شمدينو )
الرجل : فاتي .
المرأة : (تدندن ) ..
الرجل : إني أموت .
المرأة : ( تدلك صدرها بألم ) آخ. أخشى أن يكون قد ذهب إلى ولده..عدْ. عدْ يا
رجل. عيب .
الرجل : (بألم ) آخ يا فاتي،لو تدرين أية أوجاع تستوطن جسدي ما اشتكيت من الألم
الذي في قلبك .
المرأة : شمدينو أين أنت يا رجل ؟!
( تحتضر ، تحاول فعل شيء ما ،يغني الرجل بصوت مشروخ )
المرأة : شمدينو..اهتم بنفسك يا شمد .. ينو .
( يسقط رأسها على ركبة الرجل.فيجفل )
الرجل : (بفزع ) فاتي..ما بك يا فاتي ؟
( يتحسس بيديه المرتعشتين رأسها وجسدها .يناديه بخوف ،ينشج حين
لا يسمع صوتها ويتأكد من موتها . يضع رأسه فوق رأسها وهو ينشج
يصمت ويجمد على حاله، ينبعث بعد ذلك صوت غنائه من أعماق
سحيقة. تدخل قطة سوداء . تقترب منهما ، تشممهما، تموء بصوت
ممطوط ،صوت غناء شمدينو يخفت ويتلاشى مع مواء القطة واشتداد
الظلام )
• إشارات :
1- كولي : قرية كبيرة من قرى جبال أومريان في كردستان تركيا .
2- المحمودكية والعثمانكية : نسبة إلى الآغا محمود والآغا عثمان،من منطقة جبال أومريان ؛وهما الشقيقان اللذان انقسم الأومريون على إثر خلافهما الشخصي إلى جماعتين متعاديتين عرا باسمهما .
3- القلية،أو القلي : لحم كان يطبخ ويحتفظ به للمؤونة .
نقل بعد اخذ الاذن بالنشر من الكاتب نفسه
الحقوق محفوظة للمؤلف -